الديوان : قصائد وشعر محمود درويش . الشاعر/الكاتب : محمود درويش

يجيئون، 
أبوابنا البحر، فاجأنا مطر. لا إله سوى الله. فاجأنا 
مطر و رصاص. هنا الأرض سجادة، و الحقائب 
غربة! 
يجيئون، 
فلتترجّل كواكب تأتي بلا موعد. و الظهور التي 
استندت للخناجر مضطرة للسقوط 
و ماذا حدث ؟ 
أنت لا تعرف اليوم. لا لون. لا صوت. لا طعم 
لا شكل.. يولد سرحان، يكبر سرحان، 
يشرب خمرا و يسكرّ. يرسم قاتله، و يمزق 
صورته. ثم يقتله حين يأخذ شكلا أخيرا 
و يرتاح سرحان: 
سرحان! هل أنت قاتل ؟ 
و يكتب سرحان شيئا على كم معطفه، ثمّ تهرب 
ذاكرة من ملف الجريمة.. تهرب.. تأخذ 
منقار طائر. 
و تأكل حبة قمح بمرج بن عامر 
و سرحان متّهم بالسكوت، و سرحان قاتل 
و ما كان حبّا 
يدان تقولان شيئا، و تنطفئان 
قيود تلد 
سجون تلد 
مناف تلد 
و نلتف باسمك. 
ما كان حبّا 
يدان تقولان شيئا.. و تنطفئان 
و نعرف، كنا شعوبا و صرنا حجارة 
و نعرف كنت بلادا و صرت دخان 
و نعرف أشياء أكثر 
نعرف، لكنّ كل القيود القديمة 
تصير أساور ورد 
تصير بكارة 
في المنافي الجديدة 
و نلتف باسمك 
ما كان حبّا 
يدان تقولان شيئا و تنطفئان. 
و سرحان يكذب حين يقول رضعت حليبك، سرحان 
من نسل تذكرة، و تربى بمطبخ باخرة لم تلامس 
مياهك. ما اسمك؟ 
_نسيت . 
و ما اسم أبيك ؟ 
_نسيت 
و أمك 
_نسيت 
و هل نمت ليلة أمس ؟ 
_لقد نمت دهرا 
حلمت ؟ 
_كثيرا 
بماذا 
_بأشياء لم أرها في حياتي 
و صاح بهم فجأة: 
_لماذا أكلتم خضارا مهربة من حقول أريحا؟ 
_لماذا شربتم زيوتا مهربّة من جراح المسيح؟ 
و سرحان متّهم بالشذوذ عن القاعدة 
رأينا أصابعه تستغيث. و كان يقيس السماء بأغلاله 
زرقة البحر يزجرها الشرطيّ، يعاونه خادم آسيويّ، 
بلاد تغّير سكانها، و النجوم حصى 
و كان يغنّ:ي مضى جيلنا و انقضى. 
مضى جيلنا و انقضى. 
و تناسل فينا الغزاة تكاثر فينا الطغاة. دم كالمياه. 
و ليس تجفّفه غير سورة عم و قبعة الشرطيّ 
و خادمة الآسيوي. و كان يقيس الزمان بأغلاله 
سألناه: سرحان عم تساءلت؟ 
قال: اذهبوا، فذهبنا 
إلى الأمهات اللواتي تزوّجن أعداءنا. 
و كنّ ينادين شيئا شبيها بأسمائنا. 
فيأتي الصدى حرسا 
ينادين قمحا 
فيأتي الصدى حرسا 
ينادين عدلا 
فيأتي الصدى حرسا. 
ينادين يافا 
قيأتي الصدى حرسا 
و من يومها، كفت الأمهات عن الصلوات و صرنا 
نقيس السماء بأغلالنا 
و سرحان يضحك في مطبخ الباخرة 
يعانق سائحة، و الطريق بعيد عن القدس و الناصرة 
و سرحان متّهم بالضياح و العدميّة 
و كلّ البلاد بعيدة . 
شوارع أخرى اختفت من مدينته ( أخبرته الأغاني 
و عزلته ليلة العيد أن له غرفة في مكان) 
ورائحة البن جغرافيا 
و ما شرّدوك.. و ما قتلوك . 
أبوك احتمى بالنصوص، و جاء اللصوص 
و لست شريدا.. و لست شهيدا.. و أمك باعت 
ضفائرها للسنابل و الأمنيات:( و فوق سواعدنا 
فارس لا يسلم (وشم عميق ). و فوق أصابعنا 
كرمة لا تهاجر ( وشم عميق ( 
خطى الشهداء تبيد الغزاة 
(نشيد قديم) 
و نافذتان على البحر يا وطني تحذفان المنافي..وأرجع 
(حلم قديم –جديد) 
شوارع أخرى اختفت من مدينته ( أخبرته الأغاني 
و عزلته ليلة العيد أن له غرفة في مكان ). 
و رائحة البن جغرافيا 
و رائحة البن يد 
و رائحة البن صوت ينادي.. و يأخذ 
رائحة البن صوت و مئذنه (ذات يوم تعود). 
و رائحة البن ناي تزغرد فيه مياه المزاريب ينكمش 
الماء يوما و يبقى الصدى . 
و سرحان يحمل أرصفة و نوادي و مكتب حجز التذاكر 
سرحان يعرف أكثر من لغة و فتاه. و يحمل تأشيرة 
لدخول المحيط و تأشيرة للخروج و لكنّ سرحان 
قطرة دم تفتش عن جبهة نزفتها.. و سرحان 
قطرة دم تفتّش عن جثة نسيتها.. و أين ؟ 
و لست شريدا.. و لست شهيدا 
و رائحة البن جغرافيا. 
و سرحان يشرب قهوته .. 
و يضيع 
هنا القدس . 
يا امرأة من حليب البلابل كيف أعانق ظلي 
و أبقى ؟ 
خلقت هنا.. و تنام هناك 
مدينة لا تنام و أسماؤها لا تدوم. بيةت تغيّر 
سكانها. و النجوم حصى . 
و خمس نوافذ أخرى، و عشر نوافذ أخرى تغادر 
حائط 
و تسكن ذاكرة.. و السفينة تمضي . 
و سرحان يرسم شكلا و يحذفه: طائرات وربّ قديم 
و نابالم يحرق وجها و نافذة.. و يؤلف دوله . 
هنا القدس . 
يا امرأة من حليب البلابل كيف أعانق ظلي.. 
و أبقى؟ 
و لا ظلّ للغرباء. 
مساء يرافقهم، و المساء بعيد عن الأمهات قريب من 
الذكريات. و سرحان لا يقرأ الصحف العربية. 
لا يعرف المهرجانات و التوصيات.فكيف إذن 
جاءه الحزن.. كيف تقيّأ ؟ 
و ما القدس و المدن الضائعة 
سوى ناقة تمتطيها البداوة 
إلى السلطة الجائعة 
و ما القدس و المدن الضائعة 
سوى منبر للخطابه 
و مستودع للكآبه 
و ما القدس إلا زجاجة خمر و صندوق تبغ 
..و لكنها وطني . 
من الصعب أن تعزلوا 
عصير الفواكة عن كريات دمي .. 
و لكنها وطني 
من الصعب أن تجدوا فارقا واحدا 
بين حقل الذرة 
و بين تجاعيد كفيّ 
و لكنها وطني.. 
لا فوارق بين المساء الذي يسكن الذاكرة 
و بين المساء الذي يسكن الكرملا 
و لكنها وطني 
في الحقيقة و الدم متسع للجميع 
و خط الطباشير لا يكسر المطر المقبلا 
هنا القدس .. 
كيف تعانق حريتي_ في الأغاني_ عبوديتي ؟ 
و سرحان يرسم صدرا و يسكنه 
و سرحان يبكي بلا ثمن ووسام 
و يشرب قهوته.. و يضيع 
يمزق غيما، و يرسله في اتجاه الرياح. و ماذا؟ هنالك 
غيم شديد الخصوبة. لا بدّ من تربة صالحة 
أتذهب صيحاتنا عبثا؟ 
أكلت.. شربت.. و نمت.. حلمت كثيرا. أفقت 
تعلمت تصريف فعل جديد. هل الفعل معنى بآنية 
الصوت.. أم حركة؟ 
و تكتب ض. ظ. ق. ص. ع. و تهرب منها، لأن 
هدير المحيطات فيها و لا شيء فيها ضجيج الفراغ 
حروف تميزنا عن سوانا_ طلعنا عليهم طلوع 
المنون- فكانوا هباء و كانوا سدى. سدى نحن 
هم يحرثون طفولتنا و يصكون أسلحة من أساطير 
أعلامهم لا تغني و أعلامنا تجهض الرعد نقصفهم بالحروف 
السمينة ض.ظ.ص.ق.ع ثم نقول انتصرنا و ما 
الأرض؟ ما قيمة الأرض؟ أتربة ووحول نقاتل أو لا نقاتل ؟ 
ليس مهما سؤالك ما دامت الثورة العربية محفوظة في الأناشيد 
و العيد و البنك و البرلمان 
و تعرف أن الغزاة عصي بأيدي المماليك تكتب 
ض.ظ.ق.ص.ع 
تمزق غيما و ترسله في اتجاه الرياح و ماذا؟ هنالك 
غيم شديد الخصوبة. لا بد من تربة صالحة 
و تمضي السفينة. تبقى غريبا. جراحك مطبعة للبلاغات 
و التوصيات. و باسك تنتصر الأبجدية. باسمك 
يجلس عيسى إلى مكتب ويوقع صفقة خمر و أقمشة 
و يحيى العساكر باسمك. تحفظ في خيمة 
و تعلب في خيمة. لا هوية إلا الخيام. إذا 
احترقت.. ضاع نمك الوطن 
و باسمك تأتي و تذهب.باسمك حطّين تصبح مزرعة 
للحشيش، و ثوارك السابقون سعاة بريد. و باسمك 
لا شيء. يأتي القضاة، يقولون للطين كن جبلا 
شامخا فيكون. يقولون للترعة انتفخي أنهرا فتكون 
و تكتب ض.ظ.ص.ع.ق 
تمزّق غيما و ترسله في اتجاه الرياح، و ماذا ؟ 
هنالك غيم شديد الخصوبة. لا بدّ من تربة صالحة 
أتذهب صيحاتنا عبثا؟ 
و ليست خيامك ورد الرياح. و ليست مظلات شاطيء. 
تدجج بأعمدة الخيمة. احترقي يا هويتنا_ صاح لاجيء 
و سرحان يشرب قهوته. للجليل مزايا كثيرة 
و يحلم، يحلم، يحلم.. آه_ الجليل! 
و من كفّ يوما عن الاحتراق 
أعار أصابعه للضماد 
و صرح للصحفي و للعدسات 
جريح أنا يا رفاق 
و نال وساما.. و عاد 
و سرحان ، 
ما قال جرحي قنديل زيت و ما قال .. 
صدري شباك بيت و ما قال.. 
جلدي سجّادة للوطن 
و ما قال شيئا.. 
أتذهب صيحاتنا عبثا ؟ 
كل يوم نموت ،و تحترق الخطوات و تولد عنقاء 
ناقصة ثم نحيا لنقتل ثانية 
يا بلادي، نجيئك أسرى و قتلى. 
و سرحان كان أسير الحروب، و كان أسير السلام 
على حائط السبيّ يقرأ أنباء ثورته خلف ساق مغنّية 
و الحياة طبيعية، و الخضار مهربّة من جباه العبيد 
إلى الخطباء، و ما الفرق بين الحجارة و الشهداء؟ 
و سرحان كان طعام الحروب، و كان طعام السلام . 
على حائط السبي تعرض جثته للمزاد. و في المجهر 
العربي يقولون: ما الفرق بين الغزاة و بين الطغاة؟ 
و سرحان كان قتيل الحروب، و كان قتيل السلام. 
سرحان! لا شيء يبقى، و لا شيء يمضي. اغتربت .. 
لجأت.. عرفت. و لست شريدا و لست شهيدا 
خيامك طارت شراره. 
و في الريح متسع 
هل قتلت؟ 
و يسكت سرحان يشرب قهوته و يضيع و يرسم 
خارطة لا حدود لها و يقيس الحقول بأغلاله 
هل قتلت 
و سرحان لا يتكلم .يرسم صورة قاتله من جديد، 
يمزّقها، ثم يقتلها حين تأخذ شكلا أخيرا.. 
_قتلت ؟ 
و يكتب سرحان شيئا على كمّ معطفه، ثم تهرب 
ذاكرة من ملفّ الجريمة.. تهرب.. تأخذ منقار 
طائر 
و تزرع قطرة دم بمرج بن عامر.