الديوان : قصائد وشعر احلام مستغانمي . الشاعر/الكاتب : احلام مستغانمي

المذكّرة الأولى:

إنفجري يا خارطة العالم المنهار

انفسي التضاريس الملكيّة، وحطّمي كراسي الكارتون المستورد

افتحي أبواب المحتشدات والسجون

دعي الجموع الجائعة تشبع

ودعي الفقراء يملأون جيوبهم شمساً

ابعدي العملاء عن مسيرة المتمردين

فأقدام الأقزام لم تخلق لتواكب الثوّار

طويلة ليالي هذه المواسم

مظلمة ساعات هذه الأيام

ونحن لسنا بالأموات ولسنا بالأحياء

الموت والحياة تآمر علينا

تحركي واجعلينا نموت أو نحي بزلزال

انسفي الحدود والجمارك، ولتحرق تأشيرات الدخول والخروج

فنحن حولك

نطوّقك باسم الذين جاؤوا من عندك لاجئين

وباسم الذين يعودون إليك شهداء أو فدائيين

باسم رفيق نسفت روحه داخل سيارة

باسم رفيق وصله الموت في هدية

وآخر في غرفة نومه ببيروت

من أجل الهمشري وبن بركة.. وغسان.. وكمال ناصر.

نحن نلتف حولك

ننبت على صدرك مع كروم الخليل وتمور العراق وقطن مصر..

والرفض معنا باق

بقاء نهر بردى وجبال الاوراس وصحراء سيناء.. وخليجنا.

نحن هنا

الكثير منّا موزّع بين أقبية الموت المنسية والمحاكم العسكريّة

أبطالنا لا يصلون السجون لأنهم يموتون في غرف التعذيب

ولكن ثورتنا لن تهدأ

ونهر الأردن لن يستريح

حين أصبحت رائحة الأرض عطرنا المفضل

أصبح لون التراب أجمل من لون العيون

وأصبحت كل الطرق تؤدي إليك

***

المذكرة الثانية:

حين أصبحتِ شهية كالحزن

كالفرح المؤقت

كالجنون

صرت أخشى أن أحرق خريطتك في لحظة انهيار

لم يكن (نيرون) مجنوناً

كان فقط يحب (روما) بطريقة جديدة لم يتعوّدها العشاق

المتقاعدون

اتّهم بالجنون.. لأنه أحرق حبيبته

من سنين أنام وأنا أحلم أن أستيقظ ذات يوم على ألسنة اللهيب

أقرأ كل صحفك بكل اللغات

أقرأ عناوينك الحمراء.. وعناوينك السوداء

ابحث عنكِ في صفحة الأموات وفي صفحة الأحياء

فلا أجدك هنا، ولا هناك

***

ذات مرة لقيتك وكنت في (برلين) .. سائحة حزينة

كان رفيق يضع على صدري صورة (اميكال كابرال)

وكنتِ تمرين أمامي وسط استعراض للشبيبة العالمية في

ذلك الملعب الدولي

حين وقفت لتحيّتك كانت شفقتي عليك أكبر من شوقي إليك.

ولكنني ألقيت لك بآخر زهرة وهتفت مع الرفاق

(بالروح.. بالدم.. حنكمل المشوار)

كانت رفيقتي من (بورتوريكو) تحدثني عن المطاردات

البوليسية، وتكشف للطبيب عن آثار الضرب على جسدها..

وكنت أرحل نحو ملامحك المتعبة

أغمض عيون موتاك الذين لا تزال عيونهم مفتوحة في غرف

التعذيب، وأجمع رؤوس رفاقي من ساحات الإعدام

كان البعض يتاجر بلحية (شي غيفارا) وتسريحة (انجلا)

وحطة (ليلى خالد)

كنت الثورة لقباً يشترى على رصيف

كنت اللوحة التي تباع في المزاد العلني

ولكنك أرخص من سيجار (شرشل) وحلي (ماري انطوانيت)

في ذلك المساء كتبت لك خطاباً من أحد مستشفيات برلين

لا أذكر ما قلت لك فيه

فقد أفقدني الحزن ذاكرتي

***

المذكّرة الثالثة:

أحاول أن أنسى أن لي وطناً

أتوزّع في شوارع العالم وفنادقه

أحاول أن أضيع مكانه على الخارطة

ولكننا في موسم الترحال

تهاجر الطيور نحو السماء الأولى

وتعود الأسماء إلى المياه الأم

وترجع الأوراق إلى الشجر

ويتبخر الماء عائداً إلى السماء

أحاول أن أنساك، ولكننا في موسم الترحال

وعندما أرى رحلة الكائنات نحو حضنها الأول

أشعر بالحنين إليك، فأنت حضني الوحيد

الحضن الذي وهبني الحياة ولم يحضني بعدها أبداً

أحاول أن أعود نحوك مع مواكب الكائنات المهاجرة

ولكنني أقع قبل أن أصل إليك

آلاف الحدود بيننا.. وآلاف الجمارك

وأنا أسافر نحوك وملامحك بين أشيائي الصغيرة

أخبئها كما نخبأ البضاعة المحظورة

أخشى أن يكتشفها أحدهم فيحتجزني ولا أكون مع العائدين

ولكنك شيء لا يخبأ

كنت حاملاً بك..

وكان حزني قد جاوز الشهر التاسع

لذلك حجزت في كل جمارك العالم، وقضيت عمري في

محطات القطار..

وهناك،

يحدث أن أغضب واعرض ما تبقى عندي من ملامحك للبيع

أعرضها على السوّاح عسى أحدهم يخلّصني من حملك

لكنهم لا يتوقفون أبداً جميعهم مسرعون نحو الحضن الأول

بالأمس عرضت على واحد من (الهيبيين) أن يأخذك هدية

مني..

سألني إن كنت زهرة.. أو منديلاً يربط حول الرأس

قلت له إنك معطفي الوحيد

فقال لي: نحن قلما نشعر بالبرد

وكانت المدن الجليدية تزحف نحوي، وكنت لا زلت في يدي

فافترشتك،

ونمت في محطة القطار

***

المذكرة الرابعة:

أكره أن ألتقي بك في نشرة الأخبار

أصبحت أكره أن أسمعك تنتحرين على الأمواج الطويلة

والقصيرة

وجهك المشوّه لا يخيفني

أنا أعرف الكثير عنك

أعرف حتى أعضاءك المشلولة وأعضاءك المستعارة

أعرف كيف تحاول عناوين الجرائد اليومية أن تتمدد على

جسدك، لتخفي عيوبك، وتخدع الطيبين ليذهبوا للموت تحت رايتك

رأيتك عارية

لم تكوني في طريقك إلى الحمام

ولا كنت متّجهة نحو البحر

(النظافة من الايمان) أصبحت مع الأيام كلاماً فارغاً

عندما نجح القذرون في خداع البسطاء

والسباحة لم تكن يوم هوايتك

كنت أتصور حتى ذلك اليوم أن هوايتك الوحيدة جمع الآثار،

وتبادل الآراء حول كتب الأزمان الغابرة.

لذلك أهديتك مكتبتي التاريخية، وحفظت أيام العرب ومعلقاتهم

وجئت أقصّها على (ابي الهول) و (قاسيون)

لا زلت أذكر ذلك اليوم الذي رأيتك فيه لأول مرة تتعرين

لم تقفي في ديكور مثير

ولا استنجدت بالأضواء الخافتة

ولا نزعتِ أثوابك الداخلية قطعة قطعة، كما تفعل راقصات

(الستريبيتيز).

كل شيء عندك وقع فجأة.. وخارج علب الليل

تعرّيت فجأة

ورأيتك فجأة

وتحدثت كل الجرائد بعدها أن عمان تدفن خمسة وعشرين ألف فلسطيني

خمسة وعشرون ألفا تعوّدنا بعد ذلك أن نذكرهم بالجملة.

غريب أن يتعوّد الانسان بسرعة على الأرقام الكبيرة، وينسى

أن كل رقم هو نهاية حياة

حاولي يا عمّان أن تتصوري عيون هؤلاء الخمسة

والعشرين ألفاً وهم يموتون

في عيونهم فقط تقرأين مرارة الأرقام

كانوا يحلمون ببيتوتهم خلف الضفة، حين أغرقتهم..

وقتها فقط اكتشفت هوايتك الأخيرة

وأدكت سر تجوالك عارية.. ونحن في أيلول..