( سعدتُ حين عثرتُ بين أوراقي على هذا النصّ الذي كتبته في الثمانينات من القرن الماضي . جمعتُ شجاعتي وقلت ، أطلعكم عليه دون مراجعة أو تنقيح ) .
كنت أعتقد . .
أن الشعر هو الرجل الوحيد الذي منحني اسمه دون أن يطالبني بالوفاء، وهو الحبيب الصبور الذي يجوز لي خيانته حين أشاء ، ووضعه خارج غرفتي متحججة ليلاً بالإرهاق ، مذ أصبحتُ أمًا ليلها لأطفالها الرُضع ، لا لوجعِ الأشعار .
كنت أعتقد . .
أن هناك قصائد ليليّة ، قابلة للتأجيل ، ما لم تؤجّجها الشهوة . إلى أن قرأت قولاً للأبنودي " إذا خنتَ الشعر مرة واحدة خانك إلى الأبد " . فأدركت لماذا بعد أشهر ، حين دعوتُ قصيدة صباحيّة لتحتسي معي فنجان قهوة، لم تحضر . . واعتذر عنها الشعر .
كنت أعتقد . .
أنّ ثمّة مسلّمات غير قابلة للجدل ، وقناعات ليس من المسموح أن نعيد فيها النظر ، إلى أن سمعت بمثل فرنسي يقول " وحدهم الأغبياء لا يغيّرون رأيهم ، لأنهم لا يملكون القدرة على التأمّل ". فأقلعت عن سماع الخطب ، وأدركت لماذا في نوبة جنون ، أنفق أبي ما بقي له من مال في إهدائي مكتبة .
كنت أعتقد . .
أنني امرأة لا تخاف جبروت الضوء المسلّط على الكلمات ، وأنني امتلكت الحقيقة يوم أدخلت الكهرباء إلى دهاليز روحي ، وما عدت أخشى" الكتابة في لحظة عري" مُذ كستني الكلمات .
إلى أن قرأت قول مارغريت دوراس " لم أكتب قط في حياتي وكنت أظنني أفعل ، لم أحبّ قط في حياتي وكنت أظنني أفعل ، لم أفعل في حياتي شيئاً غير الانتظار أمام باب مغلق " .
فأدركت أن للحقيقة أكثر من باب ، وأنني لم أخفِ سوى ما ظننتني وضعته تحت الضوء . . وأنّ بعض الحبر ظن . ...
كنت أعتقد . .
أن البحر لم يُخلق لغير البواخر والحيتان ، ووقفت مذعورة "على مرفأ الأيام "، فلا أحد كان جاهزا أن يعلّمني كيف تسبح الأسماك الصغيرة ، وتعاشر البحر دون ذعر .
إلى أن قرأت " المركب الثمل " لرامبو ، فأدركت أن البحر خُلق ليستدرج العشاق للغرق ، ثمّ يضحك وجثثهم تطفو على سطح الماء مفتوحة الذراعين ، فقد كان يدري أنهم من كل حبّ يعودون بخفيّ حُنَين .
لذا ركبت الحبر ، و جذّفتُ بيدٍ واحدة هرباً من البحر ، صنعتُ لي زورقا من ورق ، حمولته الكلمات و ما تحتاجه سمكة من أكاذيب ، فالكتابة تجذيف بقلم ، كي لا ننتهي في جوف الحوت .
كنت أعتقد. .
أن الأوطان أمُّ تمسح بالقُبل دمعنا ، وأننا لن نتيه لأننا نمسك بتلابيب ملايتها في غربتنا ، ونخبئ عن المخبرين أشعارنا في عمق صدرها .
كنت أعتقد . . أنها ستبارك كتاباتي ، بزهو أم تسمع ابنتها " تلاغي " بأولى كلماتها . لكنها وشت بي ، وأمدتهم بمنديلها للجم فمي ، وحاكمتني بتهمة النطق ، و عذرتها حين قرأت قول الماغوط " ما من موهبة تمرّ بلا عقاب " .