الديوان : قصائد وشعر غادة السمان . الشاعر/الكاتب : غادة السمان

نيسان يطلق في الجو صرخته :
ها هو ربيع جديد يأتي
نيسان يستعيد مملكته
صدر الأرض يخفق يتفتح
يزدهر يتنهد التراب رائحة زهر الليمون حارة كثيفة
موحية كالذكرى ...
فأتنهدك أتنهدك أيها الغريب ...

نيسان يبسط عباءته الملونة
يكسر قارورة الوجود العطرية على شواطئ لبنان
وأنا شريدة في وهج الربيع
شريدة في الليل العتيق المذهل
ليل نيسان الذي يفتح المسامات النفسية
للحب والحياة لازدهار الجسد
( ليل الطفلة محروقة الخدين 
لا ليل المقاهي والأقنعة والكرنفالات الاجتماعية )
فأتنهدك وأذكرك
...........دوما تأتي إلي عبر إيقاع الأرض ومع غليان التراب
بالعطاء ... مع رائحة زهر الليمون رائحة الاحتضان
دوما تأتي إلي من نزيف ذاكرتي ..
وعبثا نفتح في جدار الفراق كوة ...
وعبثا ننسى أننا صنعنا الربيع ذات مرة !

أصرخ : من له قلب فليتبعني ...
ولكن حين أعانق سواك أيها الشقي
أكتشف أنني أعانق أجساد رجال مقطوعي الرؤوس
وحتى رأسي
أحسه ينفصل عني
ليعوم مقطوعا فوق بحر الليل والحزن ...نيسان يطلق فيالجو صرخته
فأتنهدك وأذكرك
وأشم رائحة أيامي معك ...
وانتثر في فضاء الليل
وأتراكم كالغبار على مرايا أيامنا القديمة
وعبثا ألتصق بصورنا الهاربة إلى داخلها ...
كيف ضيعتك أيها الشقي يا ربيع القلب ؟..

سعداء كنا
ولم نستطع أن يغفر لنا الناس ارتكابنا
جرم السعادة ... كان لنا ربيع في قحط شتائهم ...
وكان لابد من عقابنا ..
وتم اعدام قلبي _ السنونو
لأنه طار بعيدا عن قبيلة الغربان والشتاء والروتين
واحترف البحث عن الربيع والدهشة ...
................
لكني أتوق اليك
حين تصير الأيام مكررة وبلهاء
مثل أشرطة تعلم اللغات بالمراسلة ...
أتوق اليك
حين تصير الوجوه حولي أصناما يغطيها الجليد والرياء
وحين يصير الشوق متسولا في دروب مجهولة
وحتى الكتابة
تصير صدأ في الشرايين
أتوق اليك
لأن الشمس لفظت أنفاسها
وداست جثتها أقدام السكارى
( بالحياة الاجتماعية ) الناجحة
أتوق اليك
لأنني كلما ازددت ايغالا في أرض الشهرة
كلما اكتشفت كم أنا وحيدة وحزينة
مثل مرصد مهجور في قمة جبل ...
أتوق اليك
لأن ذئاب شتاء الحزن
انتشرت في دروب أعضائي
أتوق اليك 
لأن القلب الذي عرف معنى مرورك بقريته الكئيبة مرة
مازال يتوق لبيارقك الملونة وأناشيدك
أتوق اليك
لأننا معا ربيع !..أيها الشقي
لو تزهر جذورنا في الأرض الحرقة
لو تشق براري الركام
لو تعود الريح لتكون صوتنا
لو!..
لو أنني لم أتركك تمضي 
لو أنني لم أصر على أن أمضي
لو
لو كنت أدري
أنني حين أسدل الستار نهائيا على مجزرتنا
أكون قد أغلقت أيضا كوة الربيع في عمري ..
لو!...

لو!...
لو عرفنا أننا ساعة افترقنا
تدلى ربيعنا إلى الأبد طفلا مشنوقا على شجرة
يهتز أمام أعيننا مثل ناقوس هائل في كاتدرائية
يقرع لهول عظيم ...
لو...
...............هل يمكن أن ننسى
أنه كان لنا ربيع ؟
وأننا ركضنا معا فوق درب المجرة المرسوم
باللآلىء...
وراقبنا الكون كيف يزهر الضوء والموسيقى
والضحك حين يغسله قلبان بالحب ؟
هل نستطيع أن ننسى ربيع الوجود
حين أسرجنا النجوم الملونة
وصنعنا منها مركبة للفرح المجنون
ونصبنا أرجوحة اللعب إلى الكواكب المشعة
وأرحنا خدنا إلى أبراج الأساطير
لو!...
لو لم نفترق
وتنطفئ النجوم كالفقاعات
ويعود الكون ليقذفنا من رحمه
وتبدو الكواكب من جديد محايدة ولا مبالية
وخاضعة لقوانين الفيزياء وحدها !...

آه كم افتقد حبك !
ونيسان يطلق صرخته والأرض تمارس الفرح
...........
طويل هو شتاء الانتظار
بين الحب والموت ...
طويلة هي تلك الأيام
الممددة في غرفة الجراحة
على طاولة طبيب مجنون اسمه " القدر " ...
طويلة هي أظافر الليل السود
حين يحاصرك بالصحو
ويسيجك بالذكرى
ويستبيح حجرات النسيان
فينبش صناديقها
وبالجمر يرسم على صفحة القلب
صورة لوجه كان ربيع القلب ...
تتأمله وتشهق
ويلتحم الضحك بالبكاء
وتهرب من فراشك
وعبثا تغسل وجهك بالماء البارد ...
كيف تطفئ حريق القلب بغسل جلد الحواس ؟ ...
.....................
تعال يا من وجهك الرحيل
ونظرتك الشفرة الرجمية وصوتك الهاوية
تعال وأزهر داخل لحمي
تدفق في روحي كالنزيف
وفجر في ودياني ينابيعك
تعال واعبرني كصاعقة
وانتشر في كعروق الذهب في الصخر
واحتوني كنار تأكل بيدرا
تعال كي يزهر البرق في رماد القلب ...
أنت يا ربيع القلب