في جيبي نجمة، أتحسّسها
حين تنهار المدينة فوق رأسي،
وتتفتت وجوه أحبابي داخل المرايا المحطمة...
نجمة دافئة مضيئة، أحتفظ بها كتعويذة
في جيب معطفي الممزق بطعنات أزمنة عدوانية...
نجمة تمدّني بقوة غامضة،
حين يتنصل العالم مني، مقهقهاً بأسنانه الرمادية
الداكنة بهباب المدن المحروقة..
نافخاً في وجهي الغبار الذري لسجائره النووية..
معربداً بهمجية وهو يدوس قريتي بساقي (الأوتوستراد)..
مستلاً سوط الحروب ليجلدني وقافلة عشاق المحبة..
طاعناً جلد الفضاء حتى يسيل دم (الأوزون)...
ثملاً في كرنفالات الأوبئة والمجاعات والأحزان،
وموت الأشياء الجميلة الهاربة كالعصافير... والحب..
***
في جيبي نجمة، أتحسّسها سراً حين أكاد أتلاشى
فأصمد في وجه عالم متوحش،
كسمكة سابحة في السيل، أو بومة نائمة على وسادة الزلازل..
في مقبرة الأنفاق، أهرول كفأر إلكتروني،
مع قوافل الجرذان المعدنية كالحة الوجوه
المتزاحمة على أحشاء القطارات المسائية الحزينة..
وأكاد لا أصدق، أن جسدي المقدد بالنفتالين
والفراء وعفن الضباب وصدأ الشوارع الكئيبة
كان ذات يوم يغطس في الزرقة الشفّافة
لسماء قريتي "الشامية" مستحماً بالخضرة والضوء،
سعيداً كسناجيب الله اللطيفة في حقول البركة
وتحت شمسه الشاسعة.. أهذا الجسد نفسه
الراكض في هباب البكاء السري لدهاليز (المترو)
هو ذاته الذي رقته العجائز الدمشقيات
وقرأت عليه جدتي تعاويذها وأدعيتها المباركة
وخضّبته بالحناء والخرزة الزرقاء وضفرت شعره بالياسمين؟
***
ولولا تلك النجمة في جيبي، لضعت
ولما تعرفت على وجهي،
بين ملايين الوجوه الكالحة في مدن التشرد..
ولما ميزت نفسي، عن تلك الجثة المزرقة
الممدة في براد الجثث، لغريب مجهول...
***
لم أعد أذكر من أين استحوذت عليها،
تلك النجمة،
لعلّي حملتها من قريتي يوم كنت طفلة
وكانت حصاة، فصارت تعويذة مشحونة بدعوات أبي لي..
أم تراني التقطتها عن حضن أستاذتي
في ملعب المدرسة؟
لقد خذلني كل شيء تقريباً منذ ذلك الحين..
شاهدت آلاف النجوم تنطفئ كالشموع
تحت مطر الصحو.. في ليل الخيبات الطويل..
لكن نجمتي السرية ظلت تضيء ببريق خاص..
***
عبثاً تعلّمني مدرسة الغربة،
أن المال هو الشعر..
وأن دفتر الشيكات هو ديوان العرب..
وأن نظرة (جورج واشنطن) على ورقة الدولار،
أجمل من نظرة الموناليزا!..
***
تلك النجمة، أتحسسها سراً
وأنا راكبة قطار الأنفاق.. وحولي وجوه ووجوه
مسحوبة من ماكينة التكرار (فوتوكوبي) عن البؤس..
نجمة أتمسك بها كي لا تضيع
وأنا أهرول في عتمة مدن ليست لي..
وأنا أتسلق سلم المترو مارة بالمدمن والمتسول،
وأنا أسعل في وجه الثلج دخان لفافتي
وأنا أتلقى صفعات رياح الغربة على خدي
***
أتحسس تلك النجمة، أطمئن
وأعرف أنني سأستمر - إذا لم أضعها -
وسأظل راكضة فوق أوراقي بالحبر حتى قاع البياض...
وأحياناً، أتأمل صديقي المستقرّ سعيداً في غربته
وداخل عينيه تركض بي سلالم معدنية متحركة
تكدّست فوقها جثث الغرباء
بأيدٍ متحجرة على (الفيزا) و (الإقامة) و (إجازة العمل)..
وفي صوته تنوح أغاني الجاز، وفي يديه
تلتمع أطراف مسننة لزجاجات شراب مكسورة..
وأسمع داخل حفيف معطفه الجلدي البارد،
إنهيارات "الألب" و "البيرينيه" وهو يحدثني عن الضرائب
والإضرابات والإيدز والكلاب المرفهة،
وأنا أتكسر كإبريق فينيقي ملون
ثم أتحسّس النجمة في جيبي، وأصحو
وأختفي في منعطف الفيلم الذي لم يُعرض بعد!...
لا تسلني يا صديقي، حتامَ أركض بجرحي المكابر
وما الذي أفعله لأستمر بعد موتي المتكرر..
سل تلك النجمة التي لا تزال تومض
كعين طفلة معافاة في حضن قريتها اللامنسية...