الكاتب : أيهم الغريب أضيف بتاريخ : 26-11-2015
بعد أنْ رحل الليل بظلامه، وطلع النهار بإشراقه كان هناك شابٌ يشق طريقه عبر أزقة القرية الصغيرة يحثُّ خطاه مسرعاً آملاً أنْ يصل إلى الساحة العامّة ويلحق بالباص قبل أن يفوت الآوان.
كان الشاب طويلاً نحيلاً يرتدي ملابس نظيفة أنيقة يلف عنقه بربطةٍ سوداء على ذلك القميص الناصع البياض ويرتدي ذلك البنطال الشديد السواد ويحمل بيده كتباً قد قرأها حتّى شبع منها حفظاً.
وكان هناك موسيقا تنبعث من حذائه الذي يضرب به الأرض من تحته وكأنّها سمفونية صباحية ولكن تلك الموسيقا لم تكن لتوقظه من تفكيره بالوصول إلى قاعة الامتحان.
صعد الباص في آخر لحظة من وقوفه فمشى الباص من فوره بعد ركوبه متوجّهاً إلى دمشق وجلس ذاك الشاب محملقاً دون النظر إلى أي شيء حوله مستمراً بالتفكير بكلام أمّه وأبيه اللذين وقفا باب الدار مودعين له بكثيرٍ من الدعوات التي كانت كافيةً لتحف قلبه بمزيدٍ من الطموح للنجاح.
كان محمدٌ وهو جالسٌ على الكرسي الجانبي من الباص يفكّر بنفسه قائلاُ: إنّ النجاح مؤكد في آخر مادّة في الجامعة وسأحصل على الدرجة الأولى دون شك وأنسى سنوات الدراسة والكدّ الطويل وسأعود مبشراً أمي الّتي طالما دعت لي وأوصتني.
وارتج الباص على منعطف خطير فمال محمد ثمّ عدّل جلسته وصفّ كتبه وكأنّ شيئاً لم يكن.
تسرح به الأفكار ليتذكّر السنوات الأولى عند دخل الجامعة ولكنه كان يركب باص عم حسن الّذي فشل ابنه ولم يدخل الجامعة على أيّة حال لقد كان كسولاً ولكنه منذ أيام قد رأه وهو يحمل البندقية ويقف على الطريق العام للقرية ليدافع عن وطنه! لقد أعطته تلك البندقية هيبة ما كان يحلم بها.
ولمّا اشتدّ جهير الشمس كان قد بلغ منتصف المسافة وبدا الطريق بهذا المكان موحشاً ضيقاً والأشجار على جانبيه كأنّها غابات استراليا، ولكنّ الراكب محمد كان مشغولاً عن كلّ هذا ولو أنّ هذه الشمس كانت توقظ الدنيا بحنانها ولكن فكره غير منتبه إلّا للامتحان الأخير والتخرج للسفر بعدها مباشرةً إلى دول الخليج الّتي تعطي ذهباً وتحيل الفقير غنياً، وفي هذه الأثناء خفف الباص حتّى توقف فانتبه محمد إنّه حاجز الجيش الذي يفتش ويتحقق من هويات الركاب فاضطر محمد للصحوة من أفكاره وأعطى الهوية لذلك العسكري صاحب البشرة السمراء القريبة إلى السواد ليذهب بها وبغيرها إلى خيمة الضباط ليعود بعد هنيهةً لينادي محمداً تعال انزل، منذ زمن ونحن ننتظرك! لماذا يا سيدي؟! يزجره بشدّة موجهاً إليه تلك البندقية التي يخاف محمد منها من بعد.
نزل باتجاه الخيمة ليأمر العسكري الباص بالانصراف فينادي محمد: لا ياسيدي لدي امتحان، إنّه آخر امتحان وسيتأخر تخرجي إذا لم أحضره. تعال ستقدّمه عندنا ....
خاب أمل محمد بعد ترجٍ طويلٍ وادخل بالقوة ليسقط على وجهه متهشم الوجه تحت قدمي الضابط الّذي كان رأسه بين نجميتين ويبدأ الاستجواب والضرب ينهال عليه من جميع الموجودين، لماذا تشارك بالمظاهرات؟ لماذا تحمل السلاح ضد هيبة الدولة؟ يرفع محمد رأسه ليتكلم فتأتيه اللطمة وتلحقها اللكمة وتنهال الأسئلة الغيرمسموح بالإجابة عليها، فيرفع محمد رأسه مرةً أخرى وكانت قد بلغت الشمس منتصف السماء ليجيب عن بحرٍ من تلك الأسئلة فيأتيه البوط العسكري على فيّه لتصيبه حالة من الإغماء وهو تحت أقدامهم مضرجاً بدمائه معفراً بغبار الأحذية.
وبعد ساعات وبين السكرة والصحوة يسمع محمد صوتاً: يا سيدي اسمه محمد أحمد وليس محمد علي أمّه زينة وليست عائشة.
الضابط: لعنكم الله ضُرب بغير ذنبٍ على كلّ حال مع أوّل باص متجهاً إلى قريته ارموه فيه.
يبكي محمدٌ وهم يقومون بإلقائه في الباص وقد انقطع عنه التفكير في الجامعة والنجاح والتخرج والسفر وكلّ شيء ويتذكّر لو أنّه صحا يوماً فسينجح ولكن النجاح هذه المرة مختلفاً!
انتهى
بقلم أيهم الغريب