الكاتب : اسلام عصمت أضيف بتاريخ : 16-08-2016

يرنو إلى مرآته"

فيرى غريباً مثله

"يرنو إليه!

محمود درويش

 

والان لا أنا أنا"

"ولا البيت بيتي

لوركا

 

"منفى هو الماضي"

محمود درويش

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

"لتخرج من هنا يجب أن تعرف من أنت ، تعرف ذلك عندما تجد نفسك ، ابحث عنك واعرف من أنت" - هكذا هتف المجذوب وهو يسير مترنحاً. كان جالساً على المقهى يرتشف من قهوته عندما مرّ من أمامه، ظل يرمقه إلى أن ابتعد وتلاشى عن ناظره ، ثم شرد ونسيَّ العالم من حوله،...

 

 

- من أنت يابني ؟

- لا أعرف من أنا ، جئتك تخبرني

- كيف أخبرك بشئ لا أعلمه!

- إذن فمن يعلم؟

نهض الشيخ وابتعد وتركه جالساً وحده

 

 

- من أين بدأت وإلى أين أنت ذاهب؟

- لا أعلم ، فقط أسير دون وجهة

- إلى متى !

- أظن هذا هو السؤال الأصوب "إلى متى" وليس إلى أين ، إلى أن أجد ذلك المجذوب الذي رأيته يومها ، كان هائماً ، سادراً ، منفصلاً عما حوله ، وكأنه قد وجد نفسه!

 

 

- كنت أسير يومها في الخيال الممدود الذي ليس به حدود ، كنت مسروراً ، كنت لا أزال بريئاً أصاحب نفسي ، لمحت زهرة فوقفت أمامها وتأملتها ، لم أرد أن أذهب بدونها ، فهممت باقتطافها ولكني جرحت ، اخترقت الزهرة رأسي ، وتلامست بتلاتها بعقلي ، وعلقت ذاكرتي هناك.

- وماذا فعلت ؟

- لم أفعل شيئاً ، سكنت فترة بجانب الزهرة ، ولكني يئست ، فتركت ذاكرتي هناك وذهبت، اختلفت مع نفسي - كيف أترك ذاكرتي وأذهب بدونها وهي مرشدي الوحيد في هذا الفضاء - فتشاجرنا حتى تعبت من الشجار ونمت، وعندما صحوت لم أجدني!

- أكمل..

- واصلت السير وحدي دون ذاكرتي أو نفسي إلى أن قابلني جمع ، فاندمجت به محاولاً تناسي ما حدث من أمري، وولادة ذاكرة جديدة ، ولكني في النهاية لم أظفر بشئ إلا فقداني مرة أخرى وفشلت ، فعدت درجي حيثما أتيت - ولأنني أصبحت بلا ذاكرة - فلم أدرك أي طريق يجب أن أسلكه ، فضعت مرة اخرى ولكن هذه المرة لم تكن في الخيال وإنما مكان يشبه اللا مكان ، وكأنني موجة في أثير ، تطير ، تعلو وتهبط ، فتعلو مرة أخرى ، لم أعد أتحكم بشئ، كل شئ يتحكم بي، فأخذت أموج وأموج وكنت أرى آخرون يموجون من حولي كل في هيمانه ، تجاذبنا وتآلفنا ، وكانوا رفقاء في الأثير!

 - أنت لست سواك أنت هو أنت ولا أحد سواك ولكنك تعددت فصرت هنا وهناك أنت أكثر من شخص ، أكثر من روح أنت الكل واللا أحدوأنت من يعيش وحده في الزحام

 

 

عندما عاد إليه وعيه، ارتجف ، أدار بصره فيما حوله فوجد المقهى خاليا ، سوى من النادل ، وآخرقد أخذ في كنس المقهى تمهيداً لإغلاقه ، نهض ودفع حسابه وعرج إلى الشارع الذي قد دمسه الليل بغيهب شديد ، سار بمحاذاة النهر متنسماً رائحة الطمي ، إلى أن أقبل عليه أول شعاع للضوء، حينها كان قد وصل إلى بيته ، صعد الدرج ، ولج من باب الشقة ، ثم ارتمى على الأريكة وخلد في نوم عميق،..

 

__________________

 

 

"هيا يابني ، قد حان موعد الاستيقاظ" - ككل يوم توقظه أمه بتلك الكلمات ، نهض مكفهر الوجه متجهماً ، ارتدى زيه المدرسي وحمل حقيبته ونزل من البيت خائفاً، فقد كان كابوساً مخيفاً حقاً.في أول حصة من اليوم المدرسي ، دخلت المعلمة إلى الفصل وشرعت في بدء الدرس ، انحنت تلتقط القلم واستدارت تكتب العنوان والتاريخ ، ولما التفّت نحو التلاميذ لمحته رافعاً يداه ، أشارت له أن يتحدث ، فنهض وسألها "متى سنخرج من هذا المنفى؟!" ، ارتبكت ، وعادت تستجمع توازنها، دون أن تجيبه قالت "اخرج بره الفصل".بعد انتهاء اليوم الدراسي وخروجه من المدرسة ، لم يذهب مباشرة إلى البيت ، ولكنه ذهب - بلا وعي - إلى عالمٍ آخر ، لا يفكر لا يتخيل لا يتذكر شيئاً ، وكأن ذهنه قد تعطل لدقائق إلى أن افاق من سهوه ووجد نفسه سائراً في شارع بوسط المدينة ، أخذته قدماه تسيّره دون وعيه إلى أن أوصلته مكانها المحبب.استهوته فكرة أن يتجول في وسط المدينة ، فجعل يمشي دون وجهة ، يتطلع إلى المحال المتوهجة المتراصة على جانبي الطريق مأخوذاً بوضاءها.

 

_________________

 

 

مرتدياً معطفه الكحليّ، يجلس على مائدة تطل على النهر كعادته كل صباح ، يخرج من حقيبته كتاباً ويشرع في قراءته حتى الظهيرة ، ثم ينتقل إلى مقهى بوسط المدينة متكأً على عصاه ، تظهر على وجهه اثار الأيام واللحظات التي ولّت ،خمسون عاماً من حياته رسمت على وجهه ملامح جعلت منه شخصاً آخر لا يربطه بشبابه سوى الاسم، عندما انتهى من قراءة الكتاب أخرج دفتره من الحقيبة ودون به "أشعر وكأن ذاكرتي قد فرعت من كل ما عشته يوماً ، وكأن حياتي التي أحياها مجرد حلماً" ، أمضى حياته بين الكتب يبحث عن نفسه ، فعاش العمر أعمارا ، ولكنه لم يجد نفسه، وعاش وحيداً.بعد لحظات فتح الدفتر مرة أخرى ودون في صفحة جديدة "لم أكتسب من حياتي شيئاً سوى الخسارة، خسارة نفسي وذاكرتي" ، جلس الطيف الذي يصاحبه دوماً بمواجهته على المائدة يحدثه فقال "أين رفقتك" ، فأجاب العجوز "رفقتي هي الوحدة ياصديق".حين جاء موعد الذهاب للمقهى وهمّ بالنهوض من على الكرسي الذي يجلسه ، داعبته نسمات لطيفة فقال "تلك النسمات تذكرني بالماضي ، لا بد أنها آتية منه"

 

___________________

 

 

صحي من النوم وقت الظهيرة ، منهك القوى ، معلول ومنقبض ، تؤلمه عظامه ، بالاضافة إلى آلام القولون التي عادت تلازمه ، على مضض قام إلى المطبخ وصنع فنجاناً من الينسون ليهدئ من الآلام التي تفتك بأمعاءه، وبالفعل سكنت آلامه كثيرا ، فراح يبحث عن كتاب كان يقرأه قبل يوم ، ولكنه نسي تماماً أين وضعه ، فتملكه اليأس من أن يجده ، فارتدى ملابس جديدة ونزل يتمشى ، كالعادة اختار أن يتمشى في مكانه المفضل بوسط المدينة.وصل الشاب سيراً إلى وسط المدينة ودلف إلى الشارع الواسع المليء بالصخب والزحام - رغم أنه يبغض الزحام - إلآ أن في الصخب تستيقظ الروح من نومها عساها ترشده إلى مبتغاه ، سار إلى أن استوقفته تحفة معروضة في أحدى المحال بها رونق وبهاء على شكل عروس البحر، وفي أوج تأمله ، إذ بأحدهم يصطدم به عن دون قصد ، وقد كان ذلك التلميذ الساه، عندما التفتا كل منهما للآخر ، فقدا الاحساس بما حولهما ، كان في عقل كل منهما خاطرة واحدة فقط "هذا هو أنا" ، هلع الطفل ولم تساوره فكرة سوى أن يركض بأسرع ما فيه ، أما عن الشاب فقد خفق قلبه وتسمّر مكانه لوهلة تائهاً.ظل الطفل يعدو وفي اثره الشاب ، ولكن بعد لحظات من الجري دهمت الشاب تلك الالآم مرة اخرى، فأبطأ ثم توقف وهو يلهث ويتصبب عرقاً شاعراً ببرودة جسمه، وبالخوف.

 

 

____________________

 

 

 

كان الطريق مزدحماً وغير ملائم للتمشية ، كما كان الجو قائظاً والشمس حارقة ، فارتاد العجوز حافلة إلى المقهى ، وعندما أشرفت على وسط المدينة ، وكان العجوز يشاهد الطريق من نافذة الحافلة ، فإذ به يرى أحدهم  يفترش الارض منهك ومتعب ، وعندما تحقق في وجهه اقشعر بدنه واصطكت أسنانه وشعر ببرودة مفاجئة وبذعر، استوقف الحافلة ونزل منها عائداً إلى ذلك الشاب ، ولكن الحافلة كانت قد تخطته بأمتار ، فحتى أن وصل إلى حيث كان الشاب كان قد اختفى ، حاول أن يجده ويسلك كل الطرق ، تجول في كل الشوارع المحيطة حتى غلبه التعب ، ولم يجده، كان متيقناً من أن ذلك الشاب كان هو.

 

 

عاد إلى بيته محملاً بالخيبة والحيرة ، والخوف، واتخذ مجلساً بالشرفة وظل يفكر فيما حدث حتى صباح اليوم التالي ، وانتهى إلى قرار اتخذه دون رجعة ، وهو أن يعود للبحث عن المجذوب ، الذي انقطع عن محاولات ايجاده منذ مدة ، فما من احد يستطيع أن يرشده وينتزعه من هذا التيه الذي يكتنفه سواه.

 

 

جاءه الطيف وقال له "أتعجب من أنك لا تزال تتمسك بالأمل حتى الآن" ، فأجاب "أنا لا أتمسك بالأمل ، هو الذي يتمسك بي"

 - وهل تظن أن باستطاعتك الخروج من هنا؟

- سأحاول

- ستفشل

- ابتعد عني

- لا أستطيع

- لا تلاحقني

- أنت من يلاحقني

- اذهب

- اذهب

 

أخرجه  من المناقشة المحتدمة صوت صحن أوقعته القطة في المطبخ ، بعد ساعات ارتدى معطفه وأمسك بعصاه ، وبدأ البحث ثانيةً عن المجذوب ، بدأ البحث بالذهاب إلى المقهى الذي كان يجلس عليه وهو شاباً يوم رأى المجذوب ، سأل واستعلم ، فقال له العاملون بالمقهى أنهم رأوه يوم أمس يهيم  كعادته عند التل القريب ، فأخذ يتوكأ على عصاه نحو التل ، عابراً النهر وعبر الجسر ، ثم اتخذ طريقاً تكسو جانبيه أشجار السرو صاعداً نحو التل ، وتعجب عندما وجده بسهولة هكذا، كان فوق التل نائماً وترتسم على وجهه علامات الارتياح والسكينة ، كان بحكم الزمن قد كبر بعقود عما رآه لأول مرة ، ولكنه لم يخطئه ، وعرفه بمجرد أن لمحه.ولأنه كان قد تمكن منه اليأس والذعر والسخط فقد فقد أعصابه ورزانته ، وأخذ يوقظ المجذوب بعصبية حتى فزع وقام مهرولاً بأقصى ما لديه ، تبعه العجوز حتى أمسك به من أسماله فتعثر ووقع ، برك عليه العجوز ممسكاً بياقة سمله بشدة ، وما عاد المجذوب يستطيع الحراك ، صاح العجوز بوجهه "كيف أخرج من هذا المنفى" ، فتفوه المجذوب "يجب أن تجد نفسك التي فقدتها" فقال العجوز"كيف أجدها أجبني أرجوك" ولم ينتبه العجوز من أنه يضيق خناق المجذوب ، حاول المجذوب التفوه "لا أعلم اتركني سأختنق" فصاح العجوز "أريد أن أخرج من هذا المنفى أريد أن أعود الى الواقع ساعدني" ولكن المجذوب كان قد تراخت أعصابه واستسلم حراكه وأسلم الرمق، ورحل إلى الواقع.

 

شارك الخبر عبر مواقع التواصل

التعليقات