و ظل المصطفى , المختار الحبيب , الذي كان فجراً لذاته , يترقب عودة سفينته في مدينة اورفيليس اثنتي عشرة سنة ليركبها عائداً إلى الجزيرة التي ولد فيها .
و في السنة الثانية عشرة, وفي اليوم السابع من أيلول شهر الحصاد صعد إلى قمة إحدى التلال القائمة وراء جدران المدينة و ألقى نظرة عميقة إلى البحر, فرأى سفينته تمخر عباب البحر مغمورة بالضباب
فاختلج قلبه في أعماقه, وطارت روحه فوق البحر فرحاً , فأغمض عينيه , ثم صلىّ في سكون نفسه .
غير أنه ما هبط عن التلة حتى فاجأته كآبة صماء, فقال في قلبه: كيف انصرف من هذه المدينة بسلام, وأسير بالبحر من غير كآبة ؟ كلا ! إنني لن أبرح هذه الأرض حتى تسيل الدماء من جراح روحي
فقد كانت أيام كآبتي طويلة ضمن جدرانها , وأطول منها كانت ليالي وحدتي و انفرادي , ومن ذا يستطيع أن ينفصل عن كآبته ووحدته من غير أن يتألم قلبه ؟
كثيرة هي أجزاء روحي التي فرقتها في هذه الشوارع و كثير هم ابناء حنيني الذين يمشون عراة بين التلال فكيف أفارقهم من غير أن اثقل كاهلي و أضغط روحي !
فليس ما أفارقه بالثوب الذي انزعه عني اليوم ثم ارتديه غدا , بل هو بشرة أمزقها بيدي
كلا و ليس فكراً أخلفه ورائي بل هو قلب جمّلته مجاعتي و جعله عطشي رقيقاً خفوقاً
بيد أني لا أستطيع أن أبطئ في سفري
فإن البحر الذي يدعو كل الأشياء إليه يستدعيني فيجب عليّ أن أركب سفينتي و أسير في الحال إلى قلبه
ولو أقمت الليلة ههنا فإنني مع أن ساعات الليل ملتهبة أجمد و أبلور و أتقيد بقيود الأرض الثقيلة
و إنني أود لو يتاح لي أن يصحبني جميع الذين ههنا ولكن أنى يكون لي ذلك ؟
فإن الصوت لا يشتطيع أن يحمل اللسان و الشفتين اللوتي تسلحن بجناحيه و لذلك فهو وحده يخترق حجب الفضاء
أجل و النسر يا صاح لا يحمل عشه بل يطير وحده محلقا في عنان السماء
وعندما بلغ المصطفى سفح التلة التفت ثانية "إلى البحر فرأى سفينته تدنو من المرفأ و أبناء بلاده يروحون ويجيئون على نقدّمها
فهتف لهم من صميم فؤاده و قال :
يا أبناء أمي الاولى أيها الراكبون متون الأمواج المذللون مدها و جزرها كم من مرة أبحرتم في أحلامي ! و ها قد أتيتم و رأيتكم في يقظتي لتي هي أعمق أحلامي .
إنني على اتم الأهبة للإبحار و في اعماقي شوق عظيم يترقب هبوب الريح على القلوع بفارغ الصبر
و لكنني أود أن اتنفس مرة واحدة في هذا الجو الهادئ و أن ابعث بنظرة عطف واحدة إلى الوراء
و حينئذ أقف معكم ملاحا بين الملاحين
أما انت أيها البحر العظيم أيها الأم الهاجعة
أنت أيها البحر العظيم الذي فيك وحدك يجد النهر و الجدول سلامهما و حريتهما
فاعلم أن هذا الجدول لن يدور إلا دورة واحدة بعد و لن يسمع أحد خريره على هذا المعبر اليوم و حينئذ آتي إليك نقطة طليقة إلى اوقيانوس طليق
و فيما هو ماش رأى عن بعد رجالاً و نساء يتركون حقولهم و كرومهم و يهرولون إلى أبواب