الديوان : قصائد وشعر جبران خليل جبران . الشاعر/الكاتب : جبران خليل جبران

وسمعهم يصرخون بعضهم ببعض من حقل إلى حقل مرددين اسمه وكل منهم يحدث رفيقه بقدوم سفينته

 

وسمعهم يصرخون بعضهم ببعض من حقل إلى حقل مرددين اسمه وكل منهم يحدث رفيقه بقدوم سفينته
فقال في نفسه:
أيكون يوم الفراق يوم الاجتماع ؟
أم يجري على الأفواه أم مسائي كان فجراً لي ؟
وماذا يجدر بي أن أقدم للفلاح الذي ترك سكته في نصف تلمه و للكرّام الذي أوقف دولاب معصرته ؟
أيتحول قلبي إلى شجرة كثيرة الأثمار فأقطف منها و أعطيهم ؟
أم تفيض رغباتي كالينبوع فأملأ كؤوسهم ؟
هل أنا قيثارة فتلامسني يد القدير أم أنا مزمار فتمر بي أنفاسه ؟
أجل إنني هائم أنشد السكينة و لكن ماهو الكنز الذي وجدته في السكينة لكي أوزعه بطمأنينة ؟
و إن كان هذا اليوم يوم حصادي ففي أية حقول بذرت بذاري و في أي فصل من الفصول المجهولة كان ذلك ؟
و إن كانت هذه هي الساعة التي يجدر بي أن أرفع فيها مصباحي واضعا إياه على منارتي فإن النور الذي يتصاعد منه ليس مني
لأنني سأرفع مصباحي فارغا مظلما
و لكن حارس الليل سيملأ ه زيتا و سينيره أيضا
قال هذا معبرا عنه بالألفاظ ولكن كثيرة مثل هذا حفظه في قلبه من غير أن يعلنه لأنه نفسه لم يقدر أن يوضح سره العميق
و عندما دخل المدينة استقبله الشعب بأسره و كانوا يهتفون له مرحبين به بصوت واحد
فوقفه شيوخ المدينة وقالوا له: بربك لا تفارقنا هكذا سريعا, فقد كنت ظهيرة في شفقنا, وقد أوحى شبابك الأحلام في نفوسنا
و أنت لست غريب بيننا كلا و لا أنت بالضيف بل أنت ولدنا و قسيم أرواحنا الحبيب
فلا تجعل عيوننا تشتاق إلى رؤية وجهك

 

ثم قال له الكهان و الكاهنات:
لا تأذن لأمواج البحر أن تفصل بيننا فتجعل الأعوام التي قضيتها بيننا نسياً منسياً, فقد كنت فينا روحا محيية, وكان خيالك نورا يشرق على وجوهنا وقد عشقتك قلوبنا و علقتك أرواحنا
ولكن محبتنا تقنعت بحجب الصمت فلم نستطيع أن نعبر عنها, بيد أنها تصرخ إليك الآن بأعلى صوتها و تمزق حجبها لكي تظهر لك حقيقتها
فإن المحبة منذ البدء لا تعرف عمقها إلا ساعة الفراق
ثم جاء إله كثيرون متوسلين متضرعين فلم يرد على أحد جوابا ولكنه كان يحني رأسه وكان الواقفون حوله ينظرون عبراته تتساقط بغزارة على وجنتيه وصدره
وظل يمشي مع الشعب حتى وصلوا إلى الساحة الكبرى أمام الهيكل.