الديوان : قصائد وشعر غادة السمان . الشاعر/الكاتب : غادة السمان

كل ليلة أدّعي كاذبةً أنني ذاهبة إلى النوم

وحين أتمدد في فراشي، أفتح نافذة في وسادتي

وأقفز منها إلى حقول الماضي

أخلّف لهم جسدي المقدد تحت الأغطية

لأعود طفلة تتسلق شجر اللوز والتين

تضفر جديلتها بالنجوم. تنصب أرجوحتها بين قارّتين

والفراشات تطير من رؤوس أصابعها..

***

كل ليلة أركض في قارّتي السرّية،

أستعيد ذاتي المنهوبة وأعضائي المتناثرة بين دهاليز المترو

وأفاعي السكك الحديدية ومصحات مجانين المطارات

وردهات السعال والقهقهة الاصطناعية والكرنفالات

ولزوم ما لا يلزم

لأعود أميرة الحرية. أتنقل في حقول بلا مخافر

وقارّات بلا مراكز حدودية

ولا تأشيرات دخول وخروج للأحلام.

***

كل ليلة أنتزع الحدود وأرمي بها عن الكرة الأرضية

وتصير المجرّة ملعباً مفتوحاً للدهشة..

كل ليلة أخترع قطارات تركب فيها المحطات وترحل،

ويسافر السفر فيها، فأجدني من جديد في دمشق.

ثمة مدينة داخل رأسي توقف فيها الزمن

اسمها دمشق. تتابع حياتها كما كانت يوم فارقتها

لا تنمو أشجارها ولا تذوي...

ولا يهرم أحباب الأمس فيها ولا يموتون

يظلّون كما عرفتهم إلى الأبد

فراشات نادرة مغروسة بالدبابيس على جدران الذاكرة.

***

منذ عشرة قرون من المطر ودعتك في دمشق. أقسمت بالليل - كاذبةً

على أن أعود إليك. أما زلت تنتظرني؟ لقد اكتشفت الآن بعد عشرة

قرون من المطر أنني لم أكن كاذبة وما زلت أحبكما دمشق وأنت.

عشرة قرون من التشرد. القطارات، المحطات الرمادية النائية.

ضباب القرى الغريبة. عشرة قرون من التسكع وحيدة فوق الثلوج

في ضوء القمر المفلوج. عشرة قرون وأنا أناديك ومدينتي بشفتين

مطبقتين على صرختهما كشفاه التماثيل. عشرة قرون من الجنون.

وها أنا اليوم أحاول أن أعود مطيعة كبنفسجات جدتي وفي صدري

عشرة قرون من الشوق. وأقسم دون أن أكذب كثيراً إنني لم أحبّ

حقاً سواكما!...

***

كنت بومة شامية غريبة الأطوار. أقطن الدهشة

مثل زرافة صغيرة في حفل استقبال عجائز الثرثرة والأقنعة

وأهرب إلى بحيرات الحب أنحت التماثيل لإشارات الاستفهام

وحين اكتشفت السر صرت أنحت إشارات تعجب!

كم صادقت العاصفة وصار جسدي يعزفها بلا وجل...

كم استسلمت لضوء القمر في ليالي الحزن الانطوائي.

كم عذّبتني تقمصاتي من شرنقة إلى فراشة..

كم أرّقني طموح فراشة صمَّمت على التحليق مع النسور

واكتشفت التحولات المدهشة لمصائرنا

ما نرغب فيه حقاً.. نكونه...ونصيره

نصنع أقدارنا أكثر مما تصنعنا هي...

كأية بومة شامية وفيّة لطيرانها الليلي..

لم أكن أريد أن أحلم بالأشرعة التي تسافر. كنت أريد أن أكون

السفر. لم أكن أريد أن أحلم بالأجنحة. أردت أن أكون التحليق ولو

بين الصواعق والعواصف، رافضة قدر عيون المساجين لتركض

نظراتي فوق القارّات، وتقرأ أكف المدن النائية، وبصمات الغرباء على

نوافذ القطارات الغريبة، وتتسلق أغصان الرياح.

كنت أريد أن أحيا، لا أن أعيش وأنا أحلم بالحياة!

كنت أريد أن أحقق أحلامي وأزوجها بالواقع وأعقد قرانها على

اللحظة بينما رمل الزمن يتابع هربه في حجرات الأنابيب للساعات

المحكمة الإغلاق الممهورة بختم الموت والزمن.