* أنت متهمة بطيران الليل..
متهمة بالمسافات، متهمة بالقطارات
والصباحات المفاجئة في فنادق الدهشة
وصحوة الذهول في شوارع مدن نائية..
أنتِ متهمة بمغازلة المستحيل،
متهمة برعشة السرّ أمام ليل يتدفق نجوماً
متهمة بتمزيق الأقنعة والكمامات
متهمة بكراهية القضبان الحديدية والأقفاص
والصور المكبرة في الشوارع والمطارات، والجزمات "الميليشياوية"
متهمة بالبنفسجي والأوكسجين والظل والصدى
متهمة بكراهية الغرف المكيفة بغاز الفحم.
...
- ومتهمة بحبكَ.. وحين يسألني القاضي
سأقول له إنني مذنبة - بكل فخر -
أرتكب صدقي في كل لحظة
معلنة أن الغبار لا يصير تبراً بمرسوم
رافضة مدائن القحط والتثاؤب والذباب والطوائف..
منحازة إلى أجنحة العصفور ضد القفص،
والطيران لا التحنيط
متهمة بالشيء، ونقيضه،
متهمة بحبك ورفضي لقيدك في آن،
وأحاول أن أستحق شرف هذه التهم كلها
ولا أطلب غير البراءة من براءتي..
***
* هل أحببتني حقاً ذات يوم يا ولادة؟
- كنت تحيط بحياتي كالضوء الذي لا يلمس
ولست بحاجة إلى دليل على حضوره غير حضوره!
كالضوء تتغلغل في أدق تفاصيلي اليومية والليلية
خفيفاً كالريح، كفرحة سرّية
كرفيف جناح عصفور عابر وليس كلسعة سوط.
وثمة أمسيات كنت أجهل فيها
أين ينتهي جسدي وأين يبدأ الليل..
ثمة أيام لم أعرف فيها
أين يبدأ فمي وأين تنتهي ابتسامتك..
ثمة لحظات نادرة لم أميز فيها
بين يدي ويدك، ومحبرتي ومحبرتك، وشروري وشرورك.
تصير دورتنا الدموية المعكرة واحدة،
وقلقنا واحداً، وقلمنا واحداً
ونموت في شهقة غبطة واحدة...
***
* ولكنك تجهلينني.. ذلك الحب كله، وتجهلينني!
- حين التقينا للمرة الأولى
كتبتك في أوراقي نسراً
حين عرفتك جيداً - أو توهمت ذلك -
سميتك نبعاً
يوم تشاجرنا اكتشفتك خنجراً
وليلة افترقنا ظننتك نجماً
ويوم خنتني دعوتك وَغْداً..
واليوم وقد أحببتك مئات الأعوام
أراك بوضوح وأنا أذرف حبري
وأعي أنك كنتَ كلهم مرة واحدة،
نسراً وخنجراً ونبعاً ووغداً ونجماً،
فقد كنت رجلاً حقيقياً...
***
* هل بلغتكِ قصائدي؟
- حين أتلو قصائدكَ على مسمع الليل كتعويذة
يخرج وجهي من قناعه، وجرحي من مخبئه
وتسبح أسماكي صوبك ناسيةً خلع بحارها عن أجسادها
وتركض مهرتي صوبك، ولا تزال براريها عالقة في حوافرها...
وتطاردك أزهاري مع بساتينها،
ولأن الشيء وقرينه ونقيضه يحب حرفك
تجرؤ قافلة نساء مثلي،
على أن تنطق بكل أمزجتها ووجوهها وتقمصاتها
في صرخة موحدة بلا حنجرة،
لو كان لها صوت لهمست: ربما كنت أحبك!
***
* كيف قضيت لياليك بدوني تلك العصور كلها؟
- فوضى من الضياء الملون،
كانت سهرتنا معاً أنت وأنا، ليلة لم تأتِ!
رقصت مع غجريات قرطبة، زنَّرني حرير القمر
احتفيت بحضورك الخفي
وأنشدت له مع العباس بن الأحنف:
"يا ليت من نتمنى عند خلوتنا
إذا خلا خلوة يوماً تمنانا"
حتى هطلت النجوم كالثلج فوق مجدنا الغابر كله
وغطتني أوراق الأشجار عند الفجر
وصاحت الشمس وهي تشرق: "أوليه"....